سورة الحج - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الحج)


        


يقول الحقّ جلّ جلاله: لا تظنوا أن الله غير ناصر لرسوله صلى الله عليه وسلم؛ بل هو ناصر له في الدنيا والآخرة لا محالة، فمن كان {يظن أن لن ينصرهُ الله في الدنيا والآخرة}، ويغيظه ذلك من أعاديه وحُساده، ويفعل ما يدفع ذلك؛ من الخدع والمكائد، فليبالغ في استفراغ المجهود، وليجاوز كل حد معهود، فعاقبة أمره أن يختنق خنقًا من ضلال مساعيه، وعدم إنتاج مقدماته ومبادئه. {فليمدد بسبب إِلى السماء} أي: فليمدُد حبلاً إلى سقف بيته، {ثم ليقطع} أي: ليختنق، من قَطعَ: إذا اختنق؛ لأنه يقطع نفَسه بحبس مجاريه. أو: ليقطع من الأرض، بعد ربط الحبل في العنق وربطه في السقف.
{فلينظر هل يُذهِبَنَّ كيدُه} أي: فليصور في نفسه أنه إن فعل ذلك؛ هل يذهب نصر الله الذي يغيظه بسبب فعله، وسمى فعله كيدًا، على سبيل الاستهزاء؛ لأنه لم يكد به محسوده، إنما كاد به نفسه. والمراد: ليس في يده إلا ما لَيْسَ بمُذهب لما يغيظه، فَتَحَصَّل أن الضمير في {ينصره} يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، وإن لم يتقدم ذكره صراحة، لكنه معهود؛ إذ الوحي إنما ينزل عليه. وقيل: يعود على {مَن}، والمعنى على هذا: من ظن- بسبب ضيق صدره، وكثرة غمه- أن لن ينصره الله، فليختنق وليمت بغيظه، فإنه لا يقدر على غير ذلك، فموجب الاختناق، على هذا، القنوطُ والسخط من القضاء، وسوء الظن بالله تعالى، حتى يئس من نصره.
قال ابن جزي: وهذا القول أرجح من الأول؛ لوجهين: أحدهما: أن هذا القول مناسب لمن يعبد الله على حرف؛ لأنه، إذا أصابته فتنة، انقلب وقنط، حتى ظنّ أن لن ينصره الله. ويؤيده من فسّر {أن لن ينصره الله} أي: لن يرزقه؛ إذ لا خير في حياة تخلو من عون الله عزّ وجلّ، فيكون الكلام، على هذا، متصلاً بما قبله. ويؤيده أيضًا: قوله تعالى، قبله: {إن الله يفعل ما يريد} أي: الأمور بيد الله، فلا ينبغي لأحد أن يسخط من قضاء الله، ولا ينقلب إذا أصابته فتنة، والوجه الثاني: أن الضمير في {ينصره}، على هذا، يعود على ما تقدّمه ذكر، دون الأول. اهـ. وانظر ابن عطية والكواشي، ففيهما ما يدفع درك ابن جزي، ورده للأول، بما في سبب الآية ونزولها من المناسبة.
ثم قال تعالى: {وكذلك أنزلناه آيات} أي: ومثل ذلك الإنزال البديع، المنطوي على الحِكَم البالغة، أنزلناه، أي: القرآن الكريم كله، حال كونه {آيات بيناتٍ} واضحات الدلالة على معانيها الرائقة، {وأن الله يهدي} به {مَن يريد} هدايته؛ ابتداء، أو يثبته على الهُدى دوامًا، ومحل {أن}: إما الجار، أي: ولأن الله يهدي، أو الرفع، أي: والأمر أن الله يهدي من يريد.
الإشارة: من غلبته نفسُه، وملكته وأسرته في يدها؛ فدواؤه: الفزع إلى الله، والاضطرار إليه آناء الليل والنهار، والمنهاج الواضح في علاجها وقهرها: هو الفزع إلى أولياء الله، العارفين به، الذين سلكوا طريق التربية على يد شيخ كامل، فإذا ظفر بهم، فليلزم صُحبتهم، وليتبع طريقهم، وليسارع إلى فعل كل ما يشيرون به إليه، من غير تردد ولا توقف، فهم معناه، شرعًا، أم لا، فلا شك أن الله ينصره ويُؤيده، ويظفر بنفسه في أسرع مدة. وليس الخبر كالعيان، وجَرِّبْ... ففي التجريب علم الحقائق، وكذلك من ابتلي بالوسواس وخواطر السوء في أمر التوحيد، فليفزع إليه، حتى يقلعوا من قلبه عروق الشكوك والأوهام، وتذهب عنه الأمراض والأسقام، بإشراق شمس العرفان على قلبه، ويُفضي إلى طريق الذوق والوجدان، وغير هذا عناء وتعب، ولو فرض أنه يسكن عنه ذلك، فلا يذهب عنه بالكلية، فربما يهيج عليه في وقت الضعف، عند الموت، فلا يستطيع دفعه، فيلقى الله بقلب سقيم. والعياذ بالله.
فإن قلت: هذا الذي دللتني عليه عزيز غريب، فقد دللتني على عَنقاء مغرب؟ قلت: والله، إن حسنت الظن بالله وبعباد الله، واضطررت إليه اضطرار الظمآن إلى الماء، لوجدته أقرب إليك من كل شيء. والله، لقد وجدناهم وظفرنا بهم، على مناهج الجنيد وأضرابه، يُغنون بالنظر، ويسيرون بالمريد حتى يقول له: ها أنت وربك. والمنة لله. فمن ترك ما قلنا له، وآيس من الدواء، وظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة، فليمت غيظًا وقنطًا، فلا يضر إلا نفسه؛ لأن الله يهدي من يريد، فيوفقه للدواء، ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئًا. وبالله التوفيق.


قلت: إنَّ {الله يفصل}: خبر {إنَّ} الأولى.
يقول الحقّ جلّ جلاله: {إِن الذين آمنوا} بما ذكر من الآيات البينات، أو بكل ما يجب الإيمان به- فيدخل ما ذكر دخولاً أوليًا- أي: آمنوا بذلك، بهداية الله وإرادته، {والذين هادوا والصابئين}، وهم قوم من النصارى، اعتزلوهم، ولبسوا المسوح، وقيل: أخذوا من دين النصارى شيئًا، ومن دين اليهود شيئًا، وهم القائلون بأن للعالم أصلين: نورًا وظلمة، ويعتقدون تأثير النجوم. {والمجوس} وهم الذين يعبدون النار، ويقولون: إن الخير من النور، والشر من الظلمة، {والذين أشركوا}، وهم عبدة الأصنام؛ من العرب وغيرهم، فهذه ستة أديان، خمسة للشيطان، وواحد للرحمن. {إِن الله يفصِلُ بينهم يوم القيامة}؛ في الأحوال والأماكن، فلا يجازيهم جزاء واحدًا، ولا يجمعهم في موطن واحد. أو يحكم بين المؤمنين، وبين الفرق الخمسة المتفقة على ملة الكفر، بإظهار المحق من المبطل، فيُكْرم المحق ويهين المبطل، {إن الله على كل شيء شهيد} أي: عالم بكل شيء، مراقب لأحواله، حافظ له، مطلع على سره وعقده. ومن قضية الإحاطة بتفاصيل كل فرد من أفراد الفرق المذكورة: إجراء جزائه اللائق عليه، وهو أبلغ وعيد. والله تعالى أعلم.
الإشارة: كما يفصل اللهُ يوم القيامة بين الملل المستقيمة والفاسدة؛ يفصل أيضًا بين أرباب القلوب المستقيمة الصحيحة المعمورة بنور الله، وبين أرباب القلوب السقيمة الخاربة من النور، المعمورة بالظلمة من الوساوس والخواطر، فيرفع الأولين مع المقربين الصديقين، ويسقط الآخرين في أسفل سافلين، أو مع عامة أهل اليمين. وبالله التوفيق.


يقول الحقّ جلّ جلاله: {ألم ترَ}، أيها السامع، أو من يتأتى منه الرؤية، أي: رؤية علم واستبصار، أو: يا محمد، علمًا يقوم مقام العيان، {أنَّ الله يسجد له} أي: ينقاد إليه انقيادًا تامًا {مَن في السماواتِ} من الملائكة، {ومن في الأرض} من الإنس والجن والملائكة. ويحتمل أن تكون {من}؛ عامة للعاقل وغيره، فيدخل كل ما في السماوات من عجائب المصنوعات، وكل ما في الأرض من أنواع المخلوقات. ويكون قوله: {والشمسُ والقمرُ والنجومُ والجبالُ والشجرُ والدوابُّ}، من عطف الخاص على العام؛ لاستبعاد ذلك منها عادة. ويُحتمل أن يكون السجود على حقيقته، ولكن لا نفقه ذلك، كما لا نفقه تسبيحهم.
ونقل الكواشي عن أبي العالية: (ما في السماء نجم، ولا شمس، ولا قمر، إلا يقع ساجدًا حين تغيب، ثم لا ينصرف حتى يُؤذن له). وذكر في صحيح البخاري: «أن الشمس لا تطلع حتى تسجد وتستأذن» وقال مجاهد: (سجود الجبال والشجر والدواب: تَحَوُّلُ ظِلاَلِها). أو سجودُها: طاعتها؛ فإنه ما من جماد إلا وهو مطيع لله تعالى، خاشع، يُسبح له. شَبَّه طاعتها له وانقيادها لأمره بسجود المكلف الذي كلٌّ خضوعٌ دونه.
{وكثيرٌ من الناس} يسجد لله تعالى سجود طاعة وعبادة، {وكثيرٌ حقَّ عليه العذابُ}؛ حيث امتنع من هذا السجود، الذي هو سجود عبادة؛ لكفره وعتوه. قال ابن عرفة قوله: {وكثير}: يحتمل كونه مبتدأ، ويكون في الآية حذف المقابل، أي: وكثير من الناس مثاب، وكثير حق عليه العذاب. فلا يرد سؤال الزمخشري. اهـ. وقدَّره غيرُه: وكثير من الناس يسجدون، وكثير يأبى السجود؛ فحق عليه العذاب. وقيل: وكثير حق عليه العذاب بإنكاره النبوة، وإن سجد للصانع؛ كالفلاسفة واليهود والنصارى. اهـ.
{ومَن يُهِنِ اللهُ}؛ بأن صرفته الشقاوة عن الانقياد لأمره الشرعي، {فما له من مُكرمٍ} بالسعادة، أو يوم القيامة، بل يذل ويهان، {إن الله يفعل ما يشاء} في ملكه؛ يُكرم من يشاء بفضله، ويُهين من يشاء بعدله، لا معقب لحكمه. اللهم أكرمنا بطاعتك ومحبتك، واجعلنا منقادين لأمرك وحكمك، ونعّمنا بحلاوة شهودك ومعرفتك، إنك على كل شيء قدير. هكذا يُدعى في هذه السجدة. وبالله التوفيق.
الإشارة: قد تجلى الحق جلّ جلاله بأسرار ذاته لباطن الأشياء، وبأنوار صفاته لظاهرها، فتعرف لكل شيء بأسرار ذاته وأنوار صفاته، فعرفه كلُّ شيء، ولذلك سجد له وسبح بحمده. وفي الحِكَم: (أنت الذي تَعَرَّفْتَ لكل شيء، فما جَهِلَكَ شيءٌ). فظواهر الأواني ساجدة لأسرار المعاني، وخاضعة للكبير المتعالي، ولا يفقه هذا إلا من خاض بحر المعاني، ولم يقف مع حس الأواني، ولم يمتنع من الانقياد والخضوع لجلال الحق وكبريائه في الظاهر والباطن، إلا من أهانه الله من عُصاة بني آدم. ومن يُهن الله فما له من مكرم، إن الله يفعل ما يشاء.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8